كلية العلوم | جامعة ديالى
المقال العلمي الاسبوعي
نظرية الفوضى وعلم اللامتوقع بقلم المدرس المساعد زينة محمد علي / التدريسي في قسم علوم الفيزياء كلية العلوم / جامعة ديالى |
نظرية الفوضى تبتدئ من الحدود التي يتوقف عندها العلم التقليدي ويعجز، وصار مصطلح الفوضى اختصارا لحركة متصاعدة أعادت صوغ المؤسسة العلمية عالمياً. لقد ضربت نسبيّة آينشتاين وهم نيوتن عن مكان وزمان مطلقين، وأطاحت فيزياء الكم حلم نيوتن في التوصل إلى القياسات الدقيقة الحاسمة، وبددت نظرية الفوضى خيال نيوتن (وخصوصاً تلميذه انطوان لابلاس) عن إمكان التوقّع المُحكم والحتمي.
ومن بين تلك الثورات الثلاث تتميّز نظرية الفوضى بأنها تتناول العالم المُباشر الذي نراه ونحسّه، فنظريّة النسبية تتعامل مع المقياس الكبير (الكون)، وفيزياء الكم تتعامل مع المقياس الصغير (الذرّة ودواخلها)، أما نظرية الفوضى فتتأمل في التجارب اليومية والعاديّة للبشر. فالنسبية وفيزياء الكم علوم نظرية بينما الفوضى علم عملي. لقد سعت نظرية الفوضى إلى صوغ معادلات رياضية بسيطة تشرح ظواهر كبرى عنيفة، فرصدت ظاهرة قوامها أن حدوث تغيّرات بسيطة في المعطيات الأوليّة التي تتعامل معها تلك المعادلات تفضي إلى نتائج هائلة عند الحساب النهائي، وسمّت نظرية الفوضى تلك الظاهرة «الاعتماد الحسّاس على المعطيات الأوليّة». وسرعان ما اشتهرت باسم «أثر جناح الفراشة» التي تعكس مقولة اشتهرت في بداية تطور النظرية مفادها أن رفّة جناح فراشة في مكان ما من العالم قد تتسبب في حدوث إعصار في مكان بعيد عنه.» وهذه المقولة تبرز فكرة تغافل العلماء عنها فظلت قابعة في ركن قصي في فلسفاتهم، تقضي بأن القياسات، أيا كان مجالها، يستحيل أن تكون دقيقة.
تبعاً لذلك، أن أصول نظرية الفوضى تعود إلى أعمال فكريّة عدّة في تاريخ العلم والثقافة، ويستعرض لتوضيح ذلك أعمال علماء في حقول الرياضيات والفيزياء والهندسة والفلك وعلم البيئة والأحياء وعلم طبقات الأرض والشِعر وغيرها. إلا ان تلك الأفكار لم تتبلور إلا مع اختراع الحاسوب الذي اكتشف العلماء ان باستطاعتهم من خلاله التعامل مع المعلومات على مستوى لم يكن متخيلاً في السابق. وبدا أن هناك خيطا يربط بين أعمال العلماء على الرغم من بُعد تخصصاتهم. بل وأدت تغذية الحواسيب بالمعلومات إلى أن يلاحظ الناس تأثير نقطة البداية على المسار النهائي للعمل، غيرإن المتخصصين يكتشفون طرقاً جديدة دوما. لا توجد نظرية طبيعية عن الفوضى. والأسئلة التي يمكن طرحها عن تلك الظاهرة لها طابع عمومي، ولذا فإنها في متناول غير الاختصاصيين. ووجد الباحثون، حسب قول الكاتب، ان الفوضى «خربطة» من اللا انتظام تمتد عبر المقاييس كلها من الدوّامات البحرية الصغيرة إلى التيارات الجارفة. إنه ما لا يستقر، وهو قابل للتبدد، بمعنى أنه يستنفد الطاقة ويولّد دفعاً، إنه حركة تتجه صوب العشوائية.
وفي صورة الفوضى تبدو القوانين كلها وكأنها تبددت. ويتمثل أحد أسباب استعصاء الاضطراب على الفهم علمياً في ان المعادلات التي تصفه هي معادلات التفاضل اللاخطيّة، التي لا تجد حلا لها إلا استثنائياً. وفي مجال الفن الذي يشكّل نظرية عن نظرة البشر إلى العالم هناك تفاعل مستمر بين البُنى الدقيقة الناعمة وبين الخطوط القوية الواضحة. وبطريقة ما يعطي المزيج انطباعاً بصريا بأن ما تراه يمثّل العالم الواقعي الذي تعايشه فعلياً. وقد شدد الشاعر والاس ستيفنز على إحساس بالعالم يفوق تصورات الفيزياء له، وامتلك حدساً خاصاً عن التدفق حيث يقول: «ترقرق النهر الذي يتدفق باستمرار، ولا يتدفق بالطريقة نفسها مرتين، تدفق عبر أماكن كثيرة، وكأنه يتوقف في كل منها.» ويتحدث ستيفنز عن التموجات غير الصلبة للمواد الصلبة فيقول: «فوران المجد يتموّج في العروق، فيما الأشياء تنبثق وتتحرك ثم تتبدد.
وسواء في المسافة أو الحراك أو العدم، ثمة تحولات مرئية لليلة صيف. تجريد فضي لشكل يدنو ,ثم فجأة ينكر نفسه ويغيب.» وعلى الرغم من إدراك الكاتب لأهمية شعر ستيفنز في وجود أسس لعلم الفوضى في الشعر إلا انه لم يتطرق إلى أساليب القص وإمكانية تطبيق جوانب من نظرية الفوضى عليها، إنما ذكر بعض من سمات علمي الرياضيات والفيزياء والتي لا شكّ أثرت في كتّاب الأدب ممن لهم اهتمامات علميّة حيث ذكر وجود عدّة مفاهيم مثل فضاء الحال او فضاء الحيّز اولاً ووجود الجواذب الغريبة ثانياً. ففضاء الحال، الذي يمكن أن يقابل فضاء النص القصصي أو الأدبي بشكل عام، حسب قوله نظام حركي، أي شيء مطواع قابل للثني والضغط والمط والطي. ففي فضاء الحال تتقلص المعرفة عن وضع نظام حركي، في لحظة معيّنة، إلى نقطة أو جاذب غريب يمثّل لحظة في النظام الحركي، وهو يقابل في الأدب وجود عقدة أو حدث جوهري حتى لو كان بسيطاً.
وفي اللحظة التالية يتغيّر النظام ولو بشكل هيّن فتتغيّر النقطة وتتحرّك. ويقول الكاتب إن بالامكان رسم تاريخ النظام زمنياً بتتبّع الشكل الذي ترسمه النقطة أو الجاذب الغريب، وبتتبّع مدارها مع مرور الوقت. والنقطة الأخيرة قد تكون ساهمت في فتح المجال أمام النقد الأدبي المبني على أسس نظرية الفوضى. فنظرية الفوضى أداة يمكن بواسطتها تصوّر تفاصيل العمل الأدبي ومعرفة طريقة تركيب المعنى فيه وفهمه. ويضيف الكاتب: إن النظام الذي تتبدل متغيراته باستمرار صعودا وهبوطا يصبح نقطة متحركة، مثل فراشة تدور في غرفة مغلقة لا تغادرها البتة.
وإذا تصرف النظام بشكل دوري، بمعنى أن يعود إلى الحال نفسها مجدداً فإن الفراشة ترسم شكلاً لولبياً يكرر المرور في الموقع نفسه داخل فضاء الحال. وعندما يتأمل عالِم في صورة فضاء الحال ينقله خياله إلى تصور النظام نفسه، فهذا اللولب يشير إلى وجود انتظام دوري، وذاك الانحناء يشير إلى تغيير، وتلك المساحة الفارغة تعبّر عن استحالة فيزيائية وهكذا… وتضمنت نظرية الفوضى فكرة أخرى معقّدة ولكنها جذبت كتّاب الأدب، وهي تعقيد النُّظُم فالنظم الفيزيائية المعقّدة مجموعة من المتغيرات المستقلة مما يتطلب فضاء حال بأبعاد لا متناهية. وعلى المدى القريب تستطيع أي نقطة في فضاء الحال أن تعبّر عن سلوك نظام حركي. وعلى المدى البعيد تصبح الجواذب هي السلوكيات الممكنة للنظام، والأقسام المتحركة في النظام تتعرض للكثير من التشوش والفوضى لكنها ترجع إلى الجاذب. ويؤكد الكاتب أن نظرية الفوضى تمثّل نظرية شاملة لكل العلوم، فالفكرة الأساسية أن كل النُّظُم تتشارك في صفات معيّنة تظهر عندما توضع تلك النُّظُم في أبسط نموذج لها.
والمسألة أن العلماء يدرسون خمسين جزءاً من كل شيء، ولذا تبدو بعيدة عن الذهن فكرة وجود عناصر شاملة ومشتركة. ان النظرية الشاملة في العلوم لفهم صورة متكاملة لاحتياجات الإنسان وتناغمه مع عالمه. فدراسة الطب مثلاً ممارسة قائمة بذاتها في حين أنه من المفترض أن يكون هناك ارتباط بين دراسة الطب ودراسة الأحياء والكيمياء والتغذية للوصول إلى نظرة شاملة تغطي الفجوات الحاصلة الآن في المعرفة بين العلوم.
والى اللقاء في مقال أخر أن شاء الله……